يشهد العالم اليوم العديد من التحولات الاجتماعية والاقتصادية والتقنية، والتي أثرت بدورها على مختلف القطاعات والكيانات التنظيمية وخاصة الحكومية منها، وما تقدمه من خدمات، الأمر الذي تطلب إعادة النظر في دور القطاع العام من وجهة وتعظيم دور القطاع الخاص من جهة أخرى وخاصة في مجال تقديم الخدمات. وذلك لزيادة دوره ومساهمته في أوجه التنمية المختلفة. ومن هذا المنطلق سعت ولا زالت مختلف الدول تسعى بشكل حثيث إلى تعزيز مستوى الخدمات لديها على مختلف المستويات، وذلك بنقل المشروعات والبرامج الحكومية إلى القطاع الخاص، وهذا بدوره يعزز من دور القطاع الخاص ويُحسن من جودة الخدمات المقدمة منه ويسهم في تقليل تكلفتها، كما يساهم في المشاركة في التنوع الاقتصادي وتعزيز أوجه التنمية الاقتصادية وزيادة القدرة التنافسية لمواجهة مختلف التحديات إضافة إلى زيادة المنافسة الإقليمية والدولية والتشجيع إلى جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة، وتحسين ميزان المدفوعات.
ويعرف التخصيص أو الخصخصة بأنه “زيادة مشاركة القطاع الخاص في إدارة ملكية الأنشطة والأصول التي تسيطر عليها الحكومة أو تملكها (عبوي، 2007: 13). كما يعرف بأنه فلسفة اقتصادية حديثة ذات استراتيجية وذلك لتحويل عدد كبير من القطاعات الاقتصادية والخدمات الاجتماعية التي لا ترتبط بالسياسة العليا للدولة من القطاع العام إلى القطاع الخاص (أبو يونس، 2017: 20). كما يشار إلى أن بداية الخصصة كان في المملكة المتحدة في بداية عقد الثمانينات (عبدالله، والبيلي، 2016). كما تعرف الخصخصة في مضمونها العلمي والتطبيقي بأنها “عملية تغيير اقتصادي شاملة وأن تغير الملكية بالبيع الجزئي أو الكلي أو التأجير ما هو إلا وسيلة لتحقيق الأهداف الاقتصادية نحو تحسين كفاءة الأداء بشرياً ومالياً وإنتاجياً” (المطيري، 1996: 132). وهناك من أشار إلى أنها ترجع بداية الخصخصة إلى بلدية نيويورك عندما سمحت لشركة خاصة القيام بأعمال النظافة للمدينة (الحصري، 2018: 9). وهناك من أشار إلى أن بدايتها تعود إلى التجربة اليابانية الرائد والناجحة عندما قامت الحكومة في أواخر القرن التاسع عشر بإقامة مصانع ثم بيعها للشركات والأفراد (عبوي، 2007: 11).
وأياً كانت هذه البدايات إلا أنها جاءت نتيجة العديد من الاحتياجات التنموية والتي ترتكز بدورها على العديد من المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والتقنية. وقد برزت مثل هذه الجهود بشكل كبير في نهاية القرن العشرين. حيث بدأت العديد من البلدان بالبحث عن مناهج ومفاهيم وممارسات إدارية حديثة تساعدها على التكيف مع مختلف المتغيرات المحيطة وتحديات القرن الواحد والعشرين، وتعد تلك الأساليب من أوجه الإصلاح الحكومي عامة وهو ما يعرف بإعادة ابتكار الحكومة (الحاج، 2020: 173).
وتُدفع العديد من البلدان إلى خصخصة العديد من المشروعات والبرامج لديها للعديد من التوجهات من أهمها مواكبة المتطلبات الاجتماعية لأفراد المجتمع، والتي لم يعد القطاع العام في مقدوره الوفاء بتلك الاحتياجات وذلك لتعدد وتنامي تلك الاحتياجات وتنوعها المختلف. إثر زيادة الطلب على تلك الخدمات والسلع والرغبة في جودتها ودقة وسرعة توافرها. إضافة إلى التوجه الاقتصادي والذي ينطوي على تخفيف العبء على القطاع العام من تبعات ذلك الجانب الاقتصادي من تكلفة الإدارة والتشغيل والصيانة لمثل تلك المشروعات والبرامج، وتعزيز لما يتمتع به القطاع الخاص من مرونة كبيرة وقدرات ومهارات عديدة تساعد على إدارة وتشغيل مثل تلك المشروعات، وبالتالي تعزيز جوانب الاستثمار والربح وزيادة فرص العمل وتخفيف البطالة، وسرعة الأداء من مختلف منظومات القطاع الخاص.
كما أن الدافع لتحسين مستوى الأداء وتمكين القطاع الخاص ومشاركته في القيام بمختلف الأنشطة التنموية التي تلتصق بدورها بمختلف شرائح المجتمع له دور كبير في تعزيز تمكين ذلك الدور للقطاع الخاص ومشاركته، الأمر الذي يفضي إلى تعزيز ممارسة مختلف النشاطات الاقتصادية والإدارية والاجتماعية وتحسين بالتالي مستويات المعيشة وتحقيق أوجه الرضا الاجتماعي بين أفراد المجتمع. إضافة إلى زيادة رصد النمو المعرفي وتعزيز أوجه الممارسات العملية الرصينة، بما يثري من تنامي القدرات والجدارات الأمر الذي يساهم في تحقيق رصيد وطني مميز من القوى البشرية المؤهلة في مختلف القطاعات.
كما أن التوجه الإداري من خلال توافر العديد من الكيانات التنظيمية الفاعلة لها دور في تعزيز ذلك التحول نحو القطاع الخاص وما تتضمنه من أنظمة وتعليمات وكوادر بشرية مؤهلة أفضى إلى تعزيز دور القطاع الخاص في القيام بمثل تلك المشروعات وأطمأن على وجودها في مثل تلك البيئات التنظيمية، وهذه بدوره يؤدي إلى رفع المنافسة الحرة بين مختلف منظومات القطاع الخاص للقيام بمثل تلك المشروعات الحكومية، وبالتالي ينعكس ذلك الدور على مستوى الخدمات لتلك المشروعات. وهذا بدوره يساهم في عملية الإصلاح التنظيمي بشكل عام وما يرتبط بذلك من هياكل تنظيمية وإدارية ولوائح تتعلق بمختلف نشاطات المؤسسات الإنتاجية العمومية (النفيعي، 2019: 262).
كما أن المحددات المالية للدول وما يرتبط بها من نمو وانخفاض تبعاً للعديد من العوامل الاقتصادية المختلفة تبعاً للموارد الإنتاجية في تلك البلدان وخاصة تلك البلدان التي قد تعتمد على رافد اقتصادي واحد، لها أيضاً دوراً كبير في التوجه نحو تحول المشروعات من الملكية العامة إلى القطاع الخاص، الأمر الذي يتطلب تنويع مصادر الدخل المختلفة بتخفيف العبء على القطاع العام، وهذا بدروه شجع بشكل كبير على خصخصة العديد من المشروعات في القطاع العام، وذلك للتخفيف من مثل تلك الأعباء المالية في الحاضر وفي المستقبل المنظور، وإيجاد مصادر لتنويع الدخل وكذلك تنويع وتعزيز تلك الخدمات المقدمة. ولعل تخفيف ذلك العبء المالي يعد من أهم التوجهات الأساسية للتوجه نحو الخصخصة، وذلك بما ينطوي عليه من التخفيف عن كاهل الحكومات وخاصة في بعض الخدمات الأساسية مثل التعليم، وغيرها من الخدمات العامة (الشواوره، 2019: 104).
وفي المملكة العربية السعودية واكبت مثل هذا التوجهات من أجل التغلب على مختلف العوامل الاجتماعية والاقتصادية والتقنية، وتعزيز مساهمة القطاع الخاص، حيث أطلق برنامج التخصيص في العام 2018، والذي يعد من أهم برامج رؤية المملكة 2030 الثلاثة عشرة الرئيسية والتي أُطلقت مسيرتها في العام 2016م، ، والذي سعى بدوره إلى تحديد العديد من الأصول والخدمات الحكومية القابلة للتخصيص في عدد من القطاعات، وتطوير منظومة وآليات التخصيص، وتحديد أطر الشراكة بين القطاعين العام والخاص لتعزيز جودة وكفاءة الخدمات العامة، ودعم المساهمة في التنمية الاقتصادية. ويهدف برنامج التخصيص إلى تعزيز دور القطاع الخاص في تقديم الخدمات وإتاحة الأصول الحكومية أمامه، مما يحسن من جودة الخدمات المقدمة ويسهم في تقليل تكلفتها، كما يحفز من التنوع الاقتصادي وتعزيز التنمية الاقتصادية وزيادة القدرة التنافسية لمواجهة التحديات والمنافسة الإقليمية والدولية علاوة على ذلك يسعى البرنامج إلى جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة، وتحسين ميزان المدفوعات.
ويرتكز البرنامج على ثلاثة ركائز أساسية هي تعزيز جودة وكفاءة الخدمات العامة، دعم المساهمة في التنمية الاقتصادية، وتمكين منظومة التخصيص والشراكة بين القطاعين العام والخاص. وقد أشارت وثيقة برنامج التخصص أن منظومة التخصيص في المملكة تعمل على (17) قطاعاً مستهدفاً بالتخصيص وعدد (176) مبادرة والتي تم إطلاق (32) مبادرة منها، وترسية (18) مبادرة حتى الآن. كما أشارت الوثيقة أن منظومة التخصيص في المملكة حققت خلال العام 2019م ما مجموعة (12.68) مليار ريال، وذلك قيمة الاستثمارات للشراكة بين القطاعين العام والخاص بالمملكة وما مجموعة (470) مليون ريال وذلك كعوائد بيع الأصول، أما في العام 2020م فقد تحقق ما مجموعة (2.75) مليار ريال وذلك كعوائد من عمليات بيع الأصول.
وقد نجح البرنامج في المرحلة السابقة في وضع الأطر العامة لمنظومة التخصيص من خلال إصدار نظام التخصيص وإنشاء المركز الوطني للتخصيص الذي يهدف إلى تنظيم الإجراءات المُتعلقة بمشاريع هذه المنظومة وتعزيز مشاركة القطاع الخاص وفق إجراءات تنظيمية بشكل شفاف وعادل، والتأكد من نزاهة الإجراءات المرتبطة بالعقود لتوفير بيئة تنظيمية واستثمارية جاذبة ومُحفزة للقطاع الخاص من أجل الاستثمار على المدى القصير والطويل، كما أسهم البرنامج أيضاً في تفعيل اللجان الإشراقية للقطاعات.
ولتعزيز ذلك التوجه الاستراتيجي صدر نظام التخصيص في المملكة العربية السعودية بالمرسوم الملكي الكريم رقم (م/63) وتاريخ 5 شعبان 1442هـ، وكذلك قرار مجلس الوزراء رقم (436) وتاريخ 3 شعبان 1442هـ.، وقد تضمنت المادة الثالثة من النظام ما تسعى إليه الحكومة من خلال مشاريع التخصيص بالمملكة وذلك لتحقيق عدة أهداف وهي المساعدة في تحقيق الأهداف الاستراتيجية للجهات الحكومية وترشيد الإنفاق العام، وزيادة الإيرادات للدولة، ورفع كفاءة الاقتصاد الوطني، وزيادة قدرته التنافسية لمواجهة التحديات والمنافسة الإقليمية والدولية ذات الصلة بمشاريع التخصيص، وكذلك رفع شمولية وجودة الخدمات وتوفيرها في الوقت والتكلفة المناسبين ورفع كفاءة الأًول ذات الصلة بمشاريع التخصيص وتحسين مستوى إدارتها.
وكذلك العمل على تجهيز أو إعادة هيكلة القطاعات والأجهزة والأصول والخدمات العامة المراد تخصيصها، وتحفيز القطاع الخاص المحلي والأجنبي على الاستثمار والمشاركة الفاعلة في الاقتصاد الوطني من خلال مشاريع تحقق الجدوى التنموية للحكومة والجدوى الاقتصادية للقطاعين العام والخاص وزيادة حصة القطاع الخاص في الناتج المحلي بما يحقق نمواً في الاقتصاد الوطني، وكذلك العمل على توسيع نطاق مشاركة المواطنين في ملكية الأصول الحكومية، وزيادة فرص العمل والتشغيل الأمثل للقوى الوطنية العاملة.
وحيث اهتمت المملكة العربية بأوجه التنمية الشاملة والمستدامة في التوجه الاستراتيجي نحو الخصخصة للعديد من المشاريع والبرامج العديد في المملكة، يمثل في حد ذاته توجهاً استراتيجياً بارزاً نحو تخفيف العبء على القطاع العام وزيادة مشاركة القطاع الخاص في المجال التنموي في المملكة. وهذا بدوره سيرشد العديد من النفقات التشغيلية ويوجه العديد من الخدمات نحو تقديمها بشكل أفضل وفق أفضل الممارسات الإدارية والتنظيمية الحديثة. كما سيضع المملكة في مصاف الدول الرائدة في مجال الوفاء بكافة الاحتياجات التنموية وفق أفضل المقاييس والمؤشرات العالمية.
وحيث أن القطاع الخاص هو أحد الأركان الأساسية في الدول، فقد أدركت المملكة العربية السعودية أهمية ذلك الدور وأهمية تعزيزه وتشجيعه، وذلك لما للخصخصة من دور بارز وحيوي في دعم أوجه الاقتصاد الوطني، ولقد برز ذلك جلياً منذ بدء خطط المملكة الخمسية التنموية منذ بدايتها في العام 1390هـ، الموافق 1970م وإنتهاءاً برؤية المملكة 2030 ومرتكزاتها الأساسية المجتمع الحيوي، والاقتصاد المزدهر والوطن الطموح، وستتحقق مثل هذه المرتكزات بمثل هذه التوجهات الاستراتيجية الداعمة ومنها الخصخصة التي تهدف في مضمونها إلى رفع الكفاءة والفاعلية الإنتاجية والإرتقاء بمستوى الأداء، بما يساهم في التغلب على العوامل والمتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والتقنية الحديثة.
المراجع:
أبو يونس، هشام صدقي (2017). الآثار الاقتصادية للخصخصة، القدس: دار الجندي للنشر والتوزيع.
الحاج، عبدالملك (2020). إعادة ابتكار الحكومة: دراسة تحليلية لتجربة المملكة العربية السعودية في ضوء رؤية 2030، المجلة العربية للإدارة، مج40، العدد1، 173-200.
الحصري، نبيه فرج (2018). الخصخصة دراسة مقارنة، تجربة مصر وماليزيا مع الإشارة للتجارب الغربية، القاهرة: دار الفجر للنشر والتوزيع.
الشواوره، ياسين سالم (2019). خصخصة التعليم الجامعي بالمملكة العربية السعودية من وجهة نظر بعض أعضاء هيئة التدريس بالجامعات السعودية، المجلة العلمية لكلية التربية، المجلة 35، العدد 3، 96-117.
عبدالله، عبدالله أحمد والبيلي، خالد حسن (2016). دور الخصخصة في تحسين كفاءة الأداء المالي والإنتاجية، مجلة العلوم الاقتصادية، 17(2)، 22-44.
عبدالنبي، هدى أحمد، العوضي، سالي إبراهيم، عثمان، رحاب عبدالرحمن، وبلال فائقة حسين (2021). (التحديات الاقتصادية لخصخصة قطاع التعليم الجامعي في المملكة العربية السعودية، المجلة الدولية للتنمية، المجلد العاشر، العدد الأول، 1-10.
عبوي، زيد منير (2017). الخصخصة في الإدارة العامة بين النظرية والتطبيق، عمان: دار دجلة ناشرون وموزعون.
قرار مجلس الوزراء رقم (436) وتاريخ 3 شعبان 1442هـ.، نظام التخصيص.
المرسوم الملكي الكريم رقم (م/63) وتاريخ 5 شعبان 1442هـ، نظام التخصيص.
المطيري، ثامر ملوح (1996). الخصخصة في المملكة العربية السعودية: الواقع والتطلعات والأبعاد الأمنية (دراسة تحليلية)، المجلة العربية للدراسات الأمنية والتدريب، المجلد 11، العدد 22، 123-188.
المملكة العربية السعودية، برنامج التخصيص، وثيقة برنامج التخصيص 2025.
النفيعي، صالح جود الله (2019). خصخصة الجامعات السعودية في ضوء مؤشرات الاقتصاد المعرفي والتحول الوطني، مجلة البحث العلمي في التربية، المجلد العاشر، العدد العشرون، 251-306.